حماقات ابي الغصين
استيقظ أبو الغصين ذات صباح، وصار يولولُ ويصيحُ، فاجتمع الجيران، وطرقوا الباب، وقالوا
- ما بك؟ هل أصابك مكروه؟ لقد سمعنا صُراخاً
فقال لهم: إن قميصي كان منشوراً على حبل الغسيل فوق السطح، ثم هبَّت الريح وقذفت به من فوق
فقالوا: وإذا سقط من فوق؟! فهو مجرد قميص من قماش
فحملق في وجوههم وصاح: أيها الحمقى لو كنتُ فيه كنت وقعتُ معه
ما أبْأسَ الحياة مع مغفلين من أمثالكم.
ثم أخرجهم وأغلق الباب! وأحضر القميص يتفقده فوجده سليماً وقال:
الحمد لله أنني لم أكن فيه.
ثم لبسه وجاء بمبخرة يتبخر بها فاحترق ثوبه، فخاف وصاح فاجتمع الجيران،
وقالوا:
ماذا حدث لك؟
قال: احترقت
قالوا: ولكنَّا نراك سليما
قال: كدتُ أحترق بسبب المبخرة.
قالوا: اترك البخور، واجعل مكانه عطراً.
فقال: أيها الحمقى! تطمعون أن أترك المبخرة لتأخذوها، هيا أخرجوا.
ثم خلع ثيابه وجعل يتبخر ويقول:
والله لا أتبخر بعيد اليوم إلا عرياناً.
ثم ارتدى ثوبه وخرج إلى السوق واشترى رأساً مشوياً، واشتهى أن يأكل منه، فأكل العينين ثم الأذنين
ثم اللسان فالدماغ، ومسح فمه وحمل الباقي إلى أبيه وقال:
جئتك برأس مشوي.
فقال أبوه: أين عيناه؟
قال: كان أعمى.
قال الأب: فأين أُذناه؟
قال أبو الغصين: كان أصم لا يسمع.
قال: فأين لسانه؟
قال: كان أخرس.
قال الأب: فأين دماغه؟
قال: كان أقرع، فغضب الأب وقال: رُدَّهُ، أو بَدِّلهُ.
قال أبو الغصين: لقد اشتريته بريئاً من كل عيب،
فقال الأب: صدقت وإنما العيب فيك!!
وخرج بعد العصر إلى ساحة الحي فوجد واحداً من جيرانه يقول:
مَنْ يحسب لي مقدار ما جاءني من محصول؟ فإني لا أجيد الحساب.
فقال أبو الغصين: أنا أحسبه لك بأصابعي.
قال الرجل: عندي كيسان من شعير،
فعقد أبو الغصين الخنصر والبنصر. فقال الرجل
- وعندي كيسان من قمح
فعقد أبو الغصين السبابة والإبهام وترك الأصبع الوسطى؟! فانتبه الرجل وقال:
- لماذا لم تحسب الوسطى؟
فقال أبو الغصين: كي لا يختلط القمح بالشعير.
فقال الرجل وقد شعر أنه أمام أحمق:
إنك تجيد الحساب! ولولا طريقتك لتعبنا في عزل الحنطة عن الشعير!
وعند المساء ضاع أخوه الصغير فخرج مع أحد أصحابه يبحث عنه.
رفع صوته وهو يصيح:
ولد ضائع، من رأى ولداً ضائعاً، أبوه له لحيةٌ مصبوغة،
فلطمه صاحبه وقال: وهل هذه علامة يُعرفُ بها الصبي أيها الغبي؟
فقال: ماذا أقول؟ قال: اعْطِ علامات مميزة من طول ولون وشعر وثوب.
ثم التفت فرأى أخاه خلفه فقال: ويحك أين كنت؟
قال: سمعت صوتك، وأنت تبحث عن صبي لِحيةُ أبيه مصبوغةٌ، فتذكرت أن أبي يصبغُ لحيته
وقلت لعلي أكون أنا الذي تبحثون عنه!
فتوقف صاحبه وقال: لقد ابتُليتُ بأسرة من الحمقى! والله لا أتابع معكم.. إنني أخشى
أن أضيع ولا تعرفوا لي علامة
فتركهما ومضى
]قصة حسن والجمل العطشان
بينما ارتفعت الشمس خلف المسجد الكبير في وسط مدينة الحجر البيضاء
كان أمير يضع آخر ما تبقى من الأكياس المحاكة والمصنوعة من صوف الغنم
على سنام جمله حسن. كانت السماء تشتعل من الحرارة بألوان حمراء
زهرية وبنفسجية وبرتقالية. نظر الجمل حسن إلى السماء
ليرى جمال ألوانها صباحاً، ونظر إلى سنامه المحمل بالأكياس
كل كيس مليء بالبهارات والزيوت العطرية والحجار الثمينة
كلها سيحملها مع صاحبه إلى القرية البعيدة خلف الصحراء الحارقة.
بدأ صاحبه بربط قوارير الجلد المليئة بالماء البارد ثم صعد ليجلس
ركل جمله ليبدأ السير، وبدأت الرحلة باتجاه الصحراء الملونة التراب
تاركان أشجار النخيل التي تملأ الواحة. تمنى حينها الجمل حسن
لو أنه شرب المزيد من الماء قبل ترك المكان؛ فقد كان يشعر بالعطش.
كانت شمس هذا الصيف حارقة مسلطة عليهما
خلال هذا الوقت تناول أمير الماء العذب المنعش ليشرب عدة مرات
عادة لا يحتاج الجمل للشرب بشكل متكرر، ولكن حسن لم يكن
كغيره من الجمال، كان دائم العطش. وفي كل مرة يشرب فيها أمير
تمنى الجمل حسن لو أنه يتمكن من الحصول على بعض هذا الماء البارد
كانت الشمس تسطع على كل جوانبه فيشعر بحر شديد
ولهذا فقد كان ينتظر اللحظة التي يبتعد فيها نظر أمير فيتناول حسن الماء بلا أن ينتبه صاحبه.
بعد أن سارا لساعات متعددة، أصبح حسن في حالة شديدة
من العطش حتى لم يعد يقوى على التحمل، فهو يحتاج إلى الشرب
بشكل ملحّ. ولشدة تفكيره بكيفية الحصول على الماء من غير أن ينتبه رفيقه
لم ينتبه للحجر الكبير الذي اعترض طريقه، فتعثر فيه وسقط فوقه على ركبه
فسقط أمير عن ظهره بقوة. بقي أمير مدة كافية ووجهه في التراب
فتمكن حسن من تناول الماء والشرب وإعادته بسرعة قبل أن ينتبه صاحبه.
وقف أمير ونظف ملابسه ووجهه وشعره من التراب وتوجه إلى
جمله حسن، انتبه إلى وجود الحجر وعرف أن جمله تعثر
هز رأسه ثم صعد مرة أخرى على ظهر حسن.
تبسم حسن ابتسامة يعرفها الجمال ومضى في سيره باتجاه القرية
كانت الشمس عالية في السماء والحرارة لا تطاق، فكان أمير يبرد الهواء
حول وجهه بمروحة ورقية، ولكن المسكين حسن لم يشعر إلا بحرارة أكبر
وعطش أعظم. كان ينظر إلى أمير ولعابه يسيل وهو يراه يتناول الماء العذب من قارورة الجلد
أغلق عينيه وأكمل سيره وهو يتخيل وسط ماء بارد يخفف حرارته ويرطب فمه. عندما
فتح عينيه ونظر إلى أمام قدميه، توقف فجأة وصرخ بصوت يثقب الآذان وطار صاحبه
عن ظهره مرة أخرى، تراجع حسن للخلف، فقد كان أمامه ثعبان كبير يتلوى ويسير
وسط الرمال، حسن يكره الثعابين بشدة ويخافها.
تنبه حسن إلى صاحبه المغطى بالرمال، وهروب الثعبان، فأسرع بأخذ الماء والشرب
منه حتى ارتوى ثم أعاد القارورة مكانها قبل أن يقف صاحبه مرة أخرى وهو يشتاط غضباً
نظر أمير حوله ليرى إن كان هناك حجراً آخراً، ولكنه رأى الثعبان
فعذر صاحبه الجمل، نظف نفسه وعاد ليجلس على ظهر حسن وإكمال المسير.
مرت ساعات أخرى والشمس لا تزال بحرارة لا ترحم
من بعيد، رأى حسن القرية، شعر بالسعادة فالماء قريب. بدأ بتخيل نفسه وسط ماء بارد
منعش يبرد جسده ويرويه من عطشه، سيشرب الكثير من جالونات الماء. وبينما هو سارح
في خياله، وجد نفسه يضرب رأسه بقوة بنخلة مما سبب له ورما في رأسه، وليطير على
إثرها صاحبه للمرة الثالثة عن ظهره. أخذ حسن القارورة مرة أخرى ليشرب ما تبقى بها ثم إعادتها
مرة أخرى. أمير كان في منتهى الغضب حينها؛ وقف أمام حسن مشككاً بنواياه، ثم انتبه إلى
النخلة أمامه. هز رأسه وصعد على ظهر حسن وأكمل المسير
تناول الماء ليجده فارغاً تماماً. ابتسم حسن ابتسامة الجمال وأكمل سيره.
أخيراً وصلا إلى القرية في وسط واحدة مليئة بأشجار التمر اللذيذ، والأعشاب الطيبة
وأشجار الفاكهة والورود العطرة. رأى حسن البحيرة الصغيرة في وسط القرية، شعر
حينها بعطش كبير. أنزل أمير أحماله من البهارات والزيوت والأحجار الثمينة عن
ظهر الجمل حسن وأخذها إلى السوق ليبيعها.
سار حسن مهرولاً إلى الماء ودخله وبدأ بالقفز داخله، كان في منتهى السعادة
لم يعد حسن، الجمل العطشان. كان يشعر ببرودة منعشة ونظافة. ثم تذكر أنه
سيعود إلى المدينة عابراً الصحراء الحارقة، فشرب
وشرب، ثم شرب وشرب حتى لم يعد هناك أي مكان لقطرة أخرى في معدته.
عاد أمير يبحث عنه، تناول لجامه ثم عادا يعبران الصحراء
ولكن حسن لم يعد يشعر بأي عطش ولم يشعر بأي تعب.
حبة العنب
جلس أحمد تحت الدَّالية، المحمّلة بعناقيد العنب
يراقب النّملات اللواتي يمشن في رتل مستقيم
فجأة.. لمعت في ذهنه فكرة
نطّ على الكرسي، قطف حبّة عنب كبيرة، رماها باتّجاه الرَّتل
فتدحرجت كالكرة، وتوقّفت بجانب النّمل
اقتربت منها "نموّلة" صغيرة، دارت حولها، كأنّها تتفرّج على تمثال ثمّ عضّتها
وبدأت تشدّها، فلم تستطع تحريكها
ذهبت "نموّلة" إلى صديقاتها، وهي تتذوق الحلاوة
قائلة: اتبعنني لقد وجدت كنزاً
ماذا.. كنز
أجل.. أجل، جبل كبير، مملوء بالسكر
ركضت النّملات خلفها، وعندما وصلن، لم يجدن شيئاً، لأنّ أحمد كان قد التقطها
نظرت النّملات إلى "نموّلة" وقلن لها: أين جبل السّكّر.. يا كذّابة
ثمّ تركنها، وابتعدن
بقيت "نموّلة" في المكان، تروح وتجيء
لأنّها شاهدت حبّة العنب بعينيها
ولمّا يئست قرّرت الرّجوع، فأدارت ظهرها ومشت لكنّ أحمد وضع حبّة العنب مرّةً ثانية
بغتة.. التفتت خلفها فرأت الحبّة
دهشت… "نمولّة" فأسرعت إلى رفيقاتها، تسألهنّ الرّجوع
تردّدت النّملات مدّة قصيرة، ثمّ سرن خلفها
وياللعجب… كان مكان الحبّة فارغاً، تلفتت "نموّلة" يمنة ويسرة وهي تبكي
وتقول: والله كانت هنا، أنا لا أكذب
لم تصدّق رفيقاتها كلامها، فهجمو عليها
وقالو:هذا جزاء كذبك
حزن أحمد على "نموّلة"، وعرف أنّ مزاحه كان ثقيلاً، لذا وضع حبّة العنب أمامهن
توقّفت النّملات عن عضّ "نموّلة" اقتربن من حبّة العنب ثمّ قالو
نحن آسفات، كلامك صحيح، إنّ طعمها حلو كالسّكر
اجتمعت النّملات حول الحبّة، وبدأو بنقلها إلى جحرهم لكنّ "نموّلة" اعترضّت قائلة
دعوها في مكانها، فلا حاجة لنا بها، وإن كانت جبلا ًمن السّكّر
ثمّ نظرت إلى أحمد غاضبة، ومضت مع صديقاتها إلى الرّتل